blogs.fr: Blog multimédia 100% facile et gratuit

antres-corps

Blog multimédia 100% facile et gratuit

 

BLOGS

Mi-lieu(x)

Mi-lieu(x)

Blog dans la catégorie :
Art

 

Annonce vocale

 

Statistiques

 




Signaler un contenu illicite

 

antres-corps

 

Oussema Troudi - Mohamed Amine Hamouda - Najah Zarbout

 

 
تَعَالِيمُ سُوناتا الشَّيْطَان
أصداء من معرض تريفيوم: أسامة الطرودي، نجاح زربوط
ومحمد أمين حمودة بفضاء يسر بن عمار للعرض
2020-11-21
 
هناك... بين أنقاض معبد أفروديت وعلى نغمات سوناتا تارتيني1، سوناتا الشيطان2، تربّع كل من الفرسان الثلاثة حول طاولة الهيكل المثلث. جاؤوا من رحلتهم الشاقة العابرة للأزمنة والأماكن واجتمعوا على النبل والوفاء للقيم السامية. واحدٌ من المملكة الجنوبية، مملكة الصحاري والتراب؛ والثاني من مملكة الغرب، مملكة قوس قزح؛ والثالثة من مملكة الشرق، مملكة البحار البعيدة. تربّعوا حول المثلث ليتعاهدوا على نشر دين الجمال المحض وعقيدة الإبداع الحرّ.
تريفيوم معرض للفنون التشكيلية جمع نجاح زربوط، محمد أمين حمودة وأسامة الطرودي. الكلمة المدخل المثلث مكان الالتقاء بين ثلاثة مسالك. أما اصطلاحا فهي تعني اللاتينية وتعني إلى العلوم والفنون المحرّرة3 والتي تجمع بين الخطابة والمنطق والنحو4، ويكتمل التريفيوم بالكوادريفيوم أو ما اتفق العرب على تسميتها بالتعاليم الأربعة وهي الحساب، الموسيقى، الهندسة والفلك. فمجموعة علوم التريقيوم تهدف إلى تحصيل العرفان عن طريق الأفعال، أما التعاليم فتحصل المعرفة عن طريق الأرقام والأعداد.
-------------------
1 جيوسيبي تارتيني Giuseppe Tartini 1692 - 1770، هو مؤلف موسيقى وعازف كمان إيطالي، من الأسماء اللامعة بين موسيقيي عصر الباروك. بدأ دراسته في مجال الموسيقى وهو في سن السادسة والعشرين من أشهر أعماله سوناتا عنوانها هزة (أو زغردة) الشيطان.
2 سوناتا زغردة الشيطان لتارتيني هي وليدة حلم ليلي وأحلام يقظة: في الحلم الليلي سلّم تارتيني كمانه للشيطان فأسمعه قدرته الخارقة على العزف والتلحين، كتب تارتيني ما تذكره من الحلم وظلّ يُردّدُ أنّ ما استمع إليه في نومه كان أعظم بكثير مما نقله كتابة...
3 العلوم والفنون "المحررة" Les Arts Libéraux مصطلح يُحيل إلى المناهج التعليمية التي تهدف إلى تحصيل المعارف العامة. تضمّ الفنون المحررة المعاصرة دراسة الأدب، اللغة الفلسفة، التاريخ، الرياضيات والعلوم على عكس المناهج المتخصصة كالمناهج المحترفة والمناهج المهنية التقنية. في العصور القديمة ووصولا إلى القرون الوسطى رمزت هذه الفنون لتعليم الإنسان الحر على عكس التعليم الموجه للعبد. تنتهي دراسة هذه الفنون بإعداد المتعلمين لعلم اللاهوت.
4 يقابلها المثلث المعرفي عند شهاب الدين السهروردي والمتكوّن من علوم البيان والعرفان والبرهان.
 -------------------
التريفيوم بما هو تقاطع جَمَعَ بين ثلاثة مسارات يربطها الشغف بالورق والشكل. تَتَّحِد تلك المسارات في اهتمامات وتدور حول مشتركات واشكاليات عديدة، فتحومُ الأسئلة وتتكرر بالتلميح والتصريح: الولادة والأرض - الأم العروق وامتداداتها وتفرعاتها؛ المكان وهالة العمل الفني، سؤال الحركة وهاجس القبض على الحركة والمسك بزمام الزمن المتحرك والسعي لتثبيت الهارب... ومن خارج التساؤلات والاستفهامات تغمُركَ المقاربات بانطباع يُحيلُكَ إلى الرغبة في اللهو والتلذذ باللعب مع الشكل والعين المشاهدة له.
الهرم الجامع لتجاربهم مفتوح على القرن الثامن عشر من ناحية وعلى المستقبل القريب من ناحية أخرى. والمثلثات الجامعة ترسمها نقاط الضوء النور والروح؛ عناصر النار، التراب، الماء؛ شخصيات الكوسمولوجي والخيميائي والفلكي... هي نقاط وصل تدور حول مركز ثقل ثابت: الإبداع.
التريفيوم بما هو مفترق يفصل بين المسارات الذهنية ويشحن منطقة التماس بطاقة كل منهم؛ هم حالة بحث مستمر عن البنية التراجيدية (بمعناها الشائع وكذلك بمعناها الفلسفي الاغريقي) المؤسسة لعوالمهم، وسطوة هذه البنية تختلف من واحد إلى آخر. التمايز في التريفيوم هو ضمانة الفرادة والتفرد، فالإيقاع الذاتي الداخلي المنظم للسلوك الإجرائي التشكيلي ينكشف للمشاهد كمفارقات مختلفة في فرضيّاتها ومناطقها لكنها تبقى مثيرة للحيرات والإعجاب في آن واحد. تلك التباينات وغيرها، هي في اعتقادي ولادة السوناتا وحمّالة سرّ التكامل السيمفوني.
قلب المثلث هو عنصر طبيعي حاضر بالغياب، عنصر النار، حوله يدور الثالوث ويهتزُّ، كل في مداره وبوتيرته الخاصة: فعل الحرق وإيصال الإضاءة الاصطناعية أمام وخلف الأوراق المجفّفة عند محمد أمين حمودة؛ ستائر الدخان، التراكم أو الركام العمودي التصاعدي في تركيبات نجاح زربوط ؛ البنية الانفجارية، ألوان الطيف الخافتة والتناظر العمودي والمركزي لأسامة الطرودي... كلّها أفعال وصوّر تشحن مركز الثقل وتُسَلّط عليه طاقة الطرد والإخراج من المساحة الداخلية "فيتربَّع التثليث" بتلك القوة الدافعة.
 
أسامة الطرودي فنّان تشكيلي وأستاذ بالمعهد العالي للفنون الجميلة بنابل، درس بالعديد من الجامعات التونسية، لامست ممارساته الإبداعية مختلف المحامل والوسائط. روح متأملة وعقلية قيادية، مسكون إلى حدّ "الهوس" بالجزئيات الدقيقة التي تلتقطها العين وتعقلها، تجده يقتفي الأثر ويترصد العلامات والحركات العابرة في كل لحظة ومع كل نبض يقتنصها ليضمها دون تردّد لمشروعه الإبداعي الكبير. مسيرته حافلة بالمعارض الشخصيّة والجماعية (ما يناهز الستين).
عرفته منذ حوالي عقدين حين كان طالبا بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس ولم تنطفئ في قلبه شعلة الشغف بالفن والفكر، بل ورأيته يحوّل "فئرانه" العابثة بالكتب وأوراقها إلى مخلوقات حبرية ملوّنة تلاعب عقارب الأزمنة. دائم البحث عن المرسم المثالي، يتأبط مسكنه مشيا ولا يتوقف أبدا عن ملاحقة نسخته الغجرية الهاربة.
أسامة الطرودي جهاز إبداعي ذكي، "ماكينة" مولدة ومحضنة للآثار الجميلة.
في الحقيقة كنتُ ولا زلتُ أعتقد في موسيقيَّة المشروع التشكيلي لأسامة، فهو لا يرتجل التناغم والإيقاعات، إنما يُركبها طبقات وسلاليم. ميتُ السيمفونية الكاملة هو سرابه المحرك لطاقاته. تراه يذوب إلى حد التماهي مع بنية قالب السوناتا وقوالب السوناتا "أليجرو"5. ذروة الانفعال عنده، تراها، تُحسُّها وتدركها في ذروة التشابك بين الفعل التشكيلي المتفرد الخالص-التجريد والآخر المتعدّد. في التريقيوم هو المالك المجازي للمثلثات السليمانية، هو صاحب الإصبع السادس6 الحامل للخاتم والعارف بسرّ النجمة المسدّسة وقدراتها الخارقة على التواصل مع الكائنات الماورائية والبدائع السحرية.

-------------------
5 قالب السوناتا أو قالب الحركة الأولى، او قالب سوناتة أليجرو Sonata Allegro Form هو قالب موسيقي بدأ استخدامه في الموسيقى الكلاسيكيّة. تمّ ترسيخ. هذا القالب عن طريق كارل فيليب إيمانويل باخ Carl Philippe Emanuel Bach (1714-1788) وهو الابن الثاني لسيباستيان باخ Johann Sebastian Bach (1750-1685) / ملاحظة: قالب السوناتا يختلف عن السوناتا، إذ أن السوناتا هو عمل مكوّن من عدة حركات (أربعة عادة) وبقوالب مختلفة، بينما قالب السوناتا هو قالب لحركة واحدة. قالب السوناتا يتميز بشكل ثلاثي، بنيته أب أ، مع قسم ب فيه مقابلة في الحالة النفسية والمقام والتصور اللحني. يُعرفُ القسم الأول في قالب السوناتا بالعرض والثاني بالتفاعل والعودة إلى العرض الأول، لكن السوناتا اليجرو أشمل وأكثر ديناميكية وبناؤه الدرامي أعقد من الثلاثي.
6 الإصبع السادس: رواية خرافية وأسطورة تناقلها العامة والخاصة في القرن التاسع عشر حول سوناتا هزة الشيطان لتارتيني تروج لقدراته الخارقة على تأليف ما يستحيل عزفه بالكمان إلا بستة أصابع في اليد اليسرى...

-------------------
مقترح أسامة في التريفيوم هو جدول قزحي تتدفق منه ألوان الطيف الهادئة. عنصر الماء في المجرى الطرودي مُؤَلّفٌ للعوالم منه تستلهم العين وتلحن أصوات الخدر وبه تستجلب الأصابع موسيقاها من عصور الباروك، فَتَئِنُ ألوانه وتنساب سوائل اللذة من خصر ذلك الكمان الشيطاني بين خيوط قوسه وأوتاره.
أثر الحركة في أعماله هو انطباعٌ سَيُلازِمُكَ ويلاحقك حتى في أحلامك الليلية المنسية؛ للوهلة الأولى تضنُّه قبض على أنفاس حركة الأشكال، ثم بالوقوف والنظر والتأمل تنتهي إلى التراجع عن حكمك المتسرع؛ حركة اللطخة توحي بالسرعة وتلك هي مصيدة أسامة. التناظر كذلك خدعة تنزلق فيها العين وفخ جميل، ففي ظاهر الشكل تُحافظ اللطخة الانفجارية على التطابق مع المطبوعة حذوها... سَتَقِفُ كالعادة للنظر والتأمّل الحَذِرِ ولن تكتشف أن الاختلاف ضمني وأنّ الخامة و/أو اللون قد تغيرا بين الشكل وتوأمه المطبوع، لن تكتشف ذلك إلا بعد أن يجهر صاحب السر بسره، ساعتها ستخجل من سؤالك: كيف فعلتها؟ وبأي طريقة؟ وسيلازمك ذلك الخجل لأنك لا زلت تحت تأثير الانتشاء بالوقوع في المصيدة الأولى. العملية الذهنية البصرية أعقد من الوصف بالكلمات المكتوبة ولا حتى المنطوقة، هي تجربة مشاهدة، يجب أن تعاش هناك أمام العمل الإبداعي، ووقفة عين أمام مرآة العقل.

محمد أمين حمودة، تشكيلي وسينوغرافي تونسي، أصيل مدينة قابس العريقة، هو أيضا باحث جامعي وأستاذ يُدرسُ بالمعهد العالي للفنون والحرف بقابس، مقارباته التجريبية موجهة بالأساس نحو الأرض - الأم وما تهديه من أصباغ وخامات أولية عضوية و/أو معدنيّة لا صناعية. مبدع مسكون بغزل الألياف النباتية وبسط العجائن الورقية. سافرت أعماله إلى الكثير من البلدان العربية والأوربية ونالت الحظوة والجوائز أينما حلَّتْ أَنتَ محمّد حمودة عديد المعارض الشخصية والجماعية نذكر منها معراج؛ خط، لطخة، أثر؛ في أعالي الورق... هو دون منازع سفير التشكيليين التجريبيين التونسيين.
حياة الورشة عنده هي الأصل والصورة طبق الأصل لنشاطه الفكري اليدوي، يُرسل إلينا صوّره الحية من يومياته الإبداعية ويبنّها عبر الشبكة العنكبوتية وصفحات التواصل، فتراه يتعايش مع أشيائه ويُمشهد تمثلاته للورشة-المخبر حتى أننا نعجز عن إدراجه ضمن الزمن الراهن ونعجز كذلك على بعثه في الأزمنة القديمة، لكن الأكيد فيما نُشاهد أنّه حامل لرسالة صادقة جميلة حتى وإن كانت قروسطية الامتداد... في الحقيقة وبالرغم من ديكور محيطه المخبري المليء بإكسسوارات الحداثة سَنَظَلُ نَرَاهُ في جبّة شيخ الطريقة التشكيلية التجريبية المتحرّرة من مخيال الخيميائي الأوروبي المعتكف في الدهليز، سنظل نراه مقاوما لميث الكهف وسطوة الأمثولات اليونانية ذروة الانفعال عند محمد أمين حمودة هي ذروة التشابك بين مكان الفعل الإبداعي (المنبت المشتل، المحل، إلخ.) وأماكن الأعين المشاهدة. هو مهاجر سالك لطريق المعرفة الشهودية. بالطريقة "الحمودِيَّة"، المسلك إلى التريفيوم محفوف بالأوحال وفكرة المخاطرة بالعبور تشبه الشطح7 بالمعنى الصوفي أمام أعين غريبة عن طقوسه.
في التريقيوم محمد أمين حمودة هو المالك والوريث الشرعي" للوفق المثلث، وفق الغزالي المثلث، ذلك المربع الطلسمي القادر على إبطال السحر واستجلاب الإعجاب والمحبة، يُشَكِّلُه من وريقات وألياف ويخضب شعيراته بأصباغ مراكش، الأزق الأطلسي، الأصفر والبرتقالي، ألوان النبق8 والزعفران ويَطْلِيهِ حُمرة من عصارة الفوة9 وأَرْجُوَاناً من الصدفات والقواقع....

-------------------
 يعرف عبد الرحمن بدوي الشطح في كتابه شطحات الصوفية: "تعبير عما تشعر به النفس حينما تصبح لأول مرة في حضرة الألوهية، ويقوم من خلال عتبة الاتحاد، ويأتي بنتيجة وجد عنيف لا يستطيع صاحبه كتمانه، فينطلق بالإفصاح عنه لسانه، وفيه يتبين هذه الهوية الجوهرية فيما بين العبد الواصل والمعبود الموصول إليه. وفي هذه الحال تتخذ الكلمات عند النفس امتلائها الخاص بحقيقتها الدقيقة، وتسمع في باطنها أحاديث قدسية، ثم تصلح النفس لغتها وفقاً لتلك الأحاديث (...) فالعناصر الضرورية لوجود ظاهرة الشطح هي : أولاً شدَّة الوجد، وثانياً أن تكون التجربة تجربة اتحاد وثالثاً أن يكون الصوفي في حال سكر ورابعاً أن يسمع في داخله هاتفاً إلهياً يدعوه إلى الاتحاد، فيستبدل دوره بدوره وخامساً أن يتم هذا كله والصوفي في حالٍ من عدم الشعور. فينطلق مترجماً من طاف به متخذاً صيغة المتكلم وكان الحق هو الذي ينطق لسانه".
النبق أو السدر ، الاسم العلمي Rhamnus : هو جنس نباتي من الفصيلة السدرية. هو شجيرات وأشجاراً صحراوية ذات أوراق كثيفة يصل ارتفاعها في بعض الأحيان إلى عدة أمتار. ينبت النبق في المرتفعات والجبال وعلى ضفاف الأنهار وينتشر في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط.
الفُوَّة الصَّبْغِيَّة أو فُوَّة الصَّبْغ أو فُوَّة الصَّبَّاغ، الاسم العلمي: Rubia Tinctorum هو نبات من جنس الفُوَّة، ذي أزهار مصفرة، يعطي جذر الفوة صباغ أحمر. وينبت في الأحراج والآجام. تُحفّفُ جذوره وتطحن لتتحول إلى مسحوق يُنقع في الماء، يسخَّنُ المزيج لاستخراج الصباغ الأحمر. عادة ما يستعمل حجر الشب كمُرسخ لوني ليعطي لونا أحمر للألياف الصوفية. يتحصل على ألوان أكثر بريقا إذا ما استعملت الأوعية النحاسية في الإعداد.

-------------------
المسألة هنا أعمق من التقمص ولعب الأدوار المبدع هنا وبهذا الشكل يخرق العادة ويخلق شخصية جديدة للتشكيلي-الخيميائي-التونسي وينسف صوّره وزخارفه القديمة.
هنا وعلى الطريقة "الحمودية" يتكلّم الجمال بلُغَةِ الفروسية والشجاعة ويجهر بالكفر بعقائد أكاديميات الفنون وتعاليمها الارثوذكسية.
ثم وفي لحظة العبور تلك يستوقفك المفترق من جديد، التريفيوم-الجامع يتقاطع مع الجدول القزحي "الطرودي"، يتحوّل المثلث إلى الزوج ويتربع، يتحرك فيتفعّل المغناط وتستقيل الموضوعية لينسحب تاركا المجال إلى إعجاب صامت مبتسم تلك الهالة الغامقة هالة الثقوب السوداء الكونية البعيدة تشفط التأويل وتلقي به وراء العالم في ظهر مرآة الكون مكان تتكلس فيه وأمامه حركة الكوسموس... لحظة الوقوف والإعجاب وإمعان النظر هي لحظة ما قبل الانفجار العظيم، لحظة الهيولى القائمة لحظة قبخيالية، قبتصورية، قبكلامية، قبلغوية... "قبقبلية".

نجاح زربوط، فنّانة تشكيلية تونسيّة من مواليد جزر قرقنة الحالمة الصامدة، متحصلة على شهادة الدكتوراه في علوم الفنون بالسوربون، تبحث عن الشكل مختلف تقنيات التعبير. راوحت بين الرسم، التصوير الفوتوغرافي، التنصيبة، إلخ. في رصيدها العديد من المعارض في تونس، المغرب، السينيغال، سويسرا وبلجيكا. تتحرك هواجسها بين ثيمات ومرجعيات وتقنيات متعدّدة، فترى في عوالمها أثر، بل آثارُ الفنتازيا الفارسية وتلميحات لصوّر الشرق الأوسط والأقصى، وسراب هفاف تتراقص حوله "وساوس الحركات النسوية".
بالقص والترصيف وشيء من التشكيل النافر تتكوّن أرواحها العابرة للورق ويتكلّم بياضه الأبكم ليسرد حياة الورشة - المعمل فَيَصِلُنا عبق الرؤى معطرا بأعواد البخور الفيتنامي مؤرجا بزيوت الأفيون
الهندي...
فعل التقطيع والترصيف الطبقي للورق هو لحظة متأمّلة لا شك في ذلك، لكن مجازات التراجيديا تنفخ ضبابها الفوسفوري المصفر على خيالات ذلك العبق اللطيف.
تصل سفينة نوح وتلوح بين الموجات الورقية محمّلة بالنبوءة وبصوّر الطوفان العظيم...
تنفخ نجاح زربوط من أنفاسها على أشرعة السفينة المهاجرة لتصل إلى تلك الجزر اليابانية المهجورة النائية، جزر الأشباح. هناك، يستقيم المنظور وتتلاشى نقاط الهروب فتنزل الأيقونة عمودية أثيرية كالوحي المقدس.
ذروة الانفعال عند نجاح هي ذروة التشابك بين أزمنة الفعل الإبداعي: السابق، الراهن وربما اللاحق.
في التريفيوم يلتقي الجدول القزحي لأسامة الطرودي وَحَمَمُ الأوحال الترابية لمحمد حمودة مع ركام الأفروس10، ركام الزبد المتطاير من أعمال نجاح؛ في الملتقى المثلث هي الوريثة الطبيعية لعالم أفروديت والمالكة الوحيدة لمفتاح معبدها.
هناك، أمام مقترحاتها، تسرد العين حكايتها الأيروسية وتتصاعد الصور المتحركة على فقاقيع الرغوة الورقية وبين أمواجها. رأيتُ المبدعة نجاح زربوط تنزل من معابد التبت حاملة فوانيسها الورقية لِتُلَقِنَ أرواح العالم تعاليم الحناجر الناسكة وتستثير في آذان أعيننا أصداء أصوات الرهبان البعيدة. أعمالها تدفعك إلى الأنين بتلك الأنفاس الأفيونية الحزينة وإلى التطهر ببلازما الخيال.
تجربة التفكير في منطق هذا العرض المثلث تسحبك عنوة إلى الإحساس بأهمية انفتاح الأنساق بعضها على بعض وتفرض على القلم والعقل طقوس دفن الحدود بين الثقافات، فالمدونة الإبداعية هنا تتولّد من زيجة مدونة الأشكال والأفعال المنشئة لها بالمدونة المعرفية ككلّ.

-------------------
10 أفروس : نسبة لأفروديت. وأفروديت في الميثولوجيا الإغريقية هي آ آلهة الحب والجمال والشبق، ولدت بعد أن أقدم كرونوس على خصي والده أورانوس وألقى بخصيته في البحر. أفروديت من أفروس Aphros زبد البحر.
-------------------
الارتفاع التدريجي للروحانية على سلّم كاندنسكي والصعود على درجات سُلّمه الهرمى لا يكون إلا فعلا مشتركا بين الرسائل الفنية والمجتمع، فشرط العبقرية الإبداعية أو الوصول إلى رأس المثلث هو الريادة ولا تتحقق الريادة إلا في اللحظة التي تتغلب فيها إرادة الاكتشاف على الخوف.

وشوشة في التريقيوم
همسة أولى للمبدع أسامة الطرودي: وهي دعوة لإحياء مشاريعه المتعلقة بفنّ الفيديو "سردا" وتنصيبًا. فلن ولن يهدأ غليان الشغف بالدقة والعطش إلى التفكيك والتركيب إلا بتلك الهندسيات السردية؛ وأظنّ أنّ في تلك المقاطع المتروكة المنسيّة كنوزا تستحق التوقف ومراكب عبور للعالميّة.
همسة ثانية للمبدع محمد أمين حمودة: وهي أيضا دعوة للتفكير في مسألة الاضمحلال التدريجي للتباينات وتثبيتها، فقدرة العمل الفني على السفر عبر الزمن ومقاومة العوامل الطبيعية والتهرئة والتآكل هي واحدة من أهم المعضلات التقنية لهذا النوع من المقاربات وأظنّ أن نزع جبة الخيميائي لبرهة وتقمص ميدعة الكيميائي مقترح يستحق وقفةً وقرارا.
همسة ثالثة للمبدعة نجاح زربوط: وهي كذلك دعوة للتفكير في معضلة التكرار. فتكرار الفعل التشكيلي مغناطيس مخدّرٌ يَفْتَكُ العقل الناظر للكليات ويلقي به على ظهر الروح وعاتق الحدس وفي ذلك مخاطرة بالزمن لا زمن الفعل التشكيلي، وإنما الزمن التأليفي الممتد.

مروان الماجد - نوفمبر 2020
 

 

Tarek Swissi - Tunisian Sketch artist - Urban Drawing

 

 
حَبْرُ الأَرْخَبِيل
طارق السويسي
 
وَقَفَ الكَاهِنُ مَسَاءً عَلَى حَافَةِ الجَزِيرَةِ المَهْجُورَةِ مُتَدَثِّرًا بِرِدَائِهِ البُنِّـيِّ الدَّاكِنِ، تَنَفَّسَ بِعُمْقٍ، رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ المُلَوِّحَةِ بِسَوَادِهَا الدَّاهِمِ، هَزَّ كَتِفَيْهِ غَيْرَ مُبَالٍ، حَدَّقَ النَّظَرَ فِي سِرَاجِ الأُفُقِ البَنَفْسَجِيِّ، تَمَعَّنَ المَشْهَدَ مَلِيًّا ثُمَّ تَرَبَّعَ عَلَى حَافَةِ مَقْعَدٍ صَخْرِيٍّ كَانَ قَدْ صَقَلَهُ لِنَفْسِهِ مُنْذُ نُزُولِهِ إَلَى مَنْفَاهِ.
فِي رِحْلَةِ العُزْلَةِ اسْتَقَلَّ أَصْغَرَ جُزُرِ الأَرْخَبِيلِ وَاسْتَقَرَّ خَاشِعًا هَائِمًا فِي عَالَمِهِ النَّائِي البَعِيدِ. أَسْكَنَ وِحْدَتَهُ الخَرْسَاءَ فِي ذَلِكَ المَكَانِ الغَرِيبِ فَتَنَـزَّلَ الصَّبْرُ عَلَى رُوحِهِ وَغَلَّفَهَا بِالزُّهْدِ وَالتَّجَلِّي.
انْتَزَعَ الكَاهِنُ الأَمَلَ مِنْ تِلْكَ الرُّقْعَةِ المُجَرَّدَةِ مِنَ التَّرَفِ : نَخْلَةٌ قَزَمَةٌ، وَحِيدَةٌ، لاَ يَتَحَرَّكُ لَهَا ظِلٌّ ؛ عَيْنٌ شَحِيحَةٌ تُقَتِّرُ عَلَى عَطَشِهِ قَطَرَاتٍ مِنْ قُطْرَانِ الحَيَاةِ ؛ مَلْجَأٌ صَغِيرٌ، عِمَادُهُ أَغْصَانٌ مُشَقَّقَةٌ جَافَّةٌ، جُدْرَانُهُ أَلْيَافٌ مُتَهَرِّئَةٌ وَسَقْفُهُ مِنْ قَشٍّ مَنْفُوثٍ ؛ بَعْضُ الصُّخُورِ المَنْخُورَةِ تَنَاثَرَتْهَا يَدٌ مَجْهُولَةٌ وَأَلْقَتْ بِهَا هُنَا وَهُنَاكَ ؛ خُنْفُسَاءُ يَتِيمَةٌ تَتَدَحْرَجُ عَلَى الأَدِيمِ اللَّزِجِ ؛ دِيدَانٌ خَجُولَةٌ تَدْبُو مُصْطَفَّةً فِي اتِجَاهِ ذَلِكَ المَسْكَنِ القَشِّيِّ...
عَلَى السَّاحِلِ النَّدِيِّ اتَكَأَتْ صَدَفَةٌ خَاوِيَّةٌ وَانْفَرَجَتْ عَلَى الحَافَةِ تُصَفِّرُ لَفَحَاتٍ مِنْ لَحْنِ إِيُولْ (إله الرِّيحِ) ؛ رَحِمٌ مَائِلٌ تُهَدْهِدُهُ الأَمْوَاجُ وَتُوَقِّـعُ عَلَى ثَغْرِهِ رَدَهَاتِ اللَّطْـمِ وَالجَزْرِ، دَرْبَكَةٌ هَادِئَةٌ مُتَهَدِّجَةٌ عَلَى مَوَازِينِ الخَدَرِ تَقْرَعُهَا إِيُولْ عَلَى طُبُولٍ "شَامَانِـيَّةٍ" سَاحِرَةٍ.
فِي ذَلِكَ السَّائِلِ الأَسْوَدِ المُحِيطِ بِالمَنْفَى المَهْجُورِ، غَرَسَ الرَّاهِبُ مَتَاهَةً مِنَ الجَرِيدِ وَهَنْدَسَ مِنْهَا مِصْيَدَةً لِلأَسْمَاكِ الصَّغِيرَةِ : مَأْمَلٌ مَفْتُوحٌ عَلَى البَقَاءِ، طَمَعٌ فِي كَرَمِ الطَّبِيعَةِ وَرَغْبَةٌ فِي التَّفَرُّغِ لِلتَّعَبُّدِ وَالاعْتِكَافِ. شَمْسُ الأَرْخَبِيلِ لَطْخَةٌ مُتَحَرِّكَةٌ، تَغْلِي أَلْوَانُهَا يَوْمًا وَتَغْرُبُ سَيَلاَنًا حَتَّى يُوَارِيهَا الأُفُقُ الدَّائِرِيُّ. سَمَاءُ الأَرْخَبِيلِ غِلاَفٌ وَرَقِيٌّ تَكْسُوهُ التَّجَاعِيدُ وَالنُّدُوبُ والخَرْبَشاَتُ. أَرْضُ الأَرْخَبِيلِ وَبَرٌ لَمِيسٌ : جِيرٌ لَـيِّنٌ نَاصِعُ البَيَاضِ. رَوَائِحُ الأَرْخَبِيلِ عَبَقٌ خَلِيطٌ مِنَ الأَفْيُونِ وَالكِبْرِيتِ. تَعَوَّدَ الكَاهِنُ عَلَى طُقُوسِ الصَّمْتِ وَنَوَامِيسِ الوِحْدَةِ فَجَعَلَ مِنْ حِزَامِهِ الصُّوفِيِّ مِسْبَحَةً لاَ تُفَارِقُ أَصَابِعَهُ : يَفْتِلُ خُيُوطَهَا صَبَاحًا، يَضْفِرُهَا ظُهْرًا، يَلُمُّ الضَّـفَائِرَ وَيَعْقِدُهَا عَشِيَّةً ثُمَّ يَفُكُّ نَسِيجَ صَنِيعَتِهِ مَسَاءً مُتَأَمِّلاً مَغِيبَهُ السَّائِلَ عَلَى لَيْلِ رُوحِهِ النَّاسِكَةِ.
 
يَنْفُخُ حَبْرُ الأَرْخَبِيلِ (طارق السويسي) فَقَاقِيعَ مِنْ زَبَدِ الحِبْرِ السِّرْيَالِيِّ فَتَتَصَاعَدُ حَامِلَةً كَوَابِيسَهُ السَّوْدَاءَ لِتَتَفَرْقَعَ الصُوَّرُ عَلَى سَمَائِهِ الوَرَقِـيَّةِ وَتَنْفَجِرَ مُنَمْنَمَاتٍ وَشَظَايَا تَقْذِفُكَ إِلَى كُلِّ مَجَازَاتِ العَالَمِ.
صُوَّرٌ مُمَغْنَطَةٌ يُفْرِزُهَا الحَبْرُ بَلْ وَيَتَنَفَّسُهَا إِحْيَاءً لِلْبَصَرِ النَّابِضِ بِالحَيَاةِ. رُسَيْمَاتٌ تُلاَزِمُهُ، تَمْتَدُّ مِنْهُ فَيَرْتَجِلُ بِهَا السَّرْدَ وَيَقْتَفِي مِنْهَا المَجَازَ. خُطُوطٌ مَفْتُولَةٌ تَتَقَاطَعٌ وَتَتَبَاعَدُ، تَتَرَاكَمُ وَتَتَشَابَكُ... هِيِّ فِي النِّهَايَةِ خُيُوطٌ تَنْسِجُهَا يَدٌ خَبِيرَةٌ : تَسْحَبُ النَّظَرَ، تُبْعِدُهُ عَنْ جَغْرَافِيَّةِ الأَمَاكِنِ وَتُسَيِّرُهُ عَلَى خَرَائِطِ الانْتِشَاءِ وَمَسَالِكِ التَّخَمُّرِ. عَرْضٌ سَمْفُونِيٌّ وَمَلْحَمَةٌ غِنَائِيَّةٌ تَصَوَّرَهَا ذَلِكَ الكَاهِنُ المُغْتَرِبُ، بَلْ رَسَائِلُ بَحْرٍ وَدَعَوَاتُ سُمُوٍّ يَبْعَثُهَا حَبْرُ الأَرْخَبِيلِ مِنْ مَعْبَدِهِ المَنْفِيِّ إِلَى هَذَا العَالَمِ المُكْتَـئِبِ المَرِيضِ. مَخْطُوطَاتٌ مُمَوْسَقَةٌ يَلُفُّهَا وَيَزُجُّ بِهَا فِي زُجَاجَاتٍ، يُحْكِمُ إِغْلاَقَهَا ثُمَّ يَرْمِي بِهَا فِي المَجْهُولِ. دَغْدَغَةٌ لأَوْتَارِ البَصَرِ وَعَزْفٌ عَلَى الشَّفَرَاتِ بِرِيشَةٍ مَسْلُولَةٍ مِنْ لَحْمِ أَجْنِحَةِ المَلاَئِكَةِ الحَارِسَةِ لِسِرِّ الرَّسْمِ. رُقَعٌ يَحِيكُهَا الكَاهِنُ الخَيَّاطُ، يُشَكِّلُهَا مِنْطَادًا مُرَصَّعًا، يَنْفُخُ فِيهِ مِنْ حَرَارَةِ رُوحِهِ الحَالِمَةِ بِالخُلُودِ، فَيَعْلُو بِالأَعْيُنِ وَيَسْمُو بِالأَلْبَابِ. رُقَعٌ يَرْتِقُهَا الحَبْرُ وَيُفَصِّلُ مِنْهَا بِسَاطًا طَائِرًا يَسْبَحُ بِالمِخْيَالِ فِي مَدَارَاتِ الأَحْلاَمِ اليَقِظَةِ.
رُسَيْمَاتُ المِغْنَاطِ هَذِهِ تَدْفَعُ اللُّغَةَ إِلَى طَاحُونَةِ الثُّنَائِيَّاتِ اليَائِسَةِ، وَتَسْحَبُ الكِتَابَةَ إِلَى مِعْصَارِ الوَصْفِ العَاجِزِ وَالسَّرْدِ الفَارِغِ وَالمَجَازِ المُبْتَذَلِ : "رُسُومٌ تُزَاوِجُ الشَّوِائِبَ الخَطِـيَّةَ وَتُلاَقِحُ الأَشْكَالَ تَحْتَ وِشَاحٍ حِبْرِيٍّ دَاكِنٍ " .
 
قَبْلَ البَدْءِ فِي جَرْدِ الرُّمُوزِ وَتَفْكِيكِ الشَّفْرَةِ الخَطِـيَّةِ، تَجْدُرُ الإِشَارَةُ إِلَى مَادِيَّةِ الرُّسُومِ وَشَكْلِ إِنْشَائِهَا، فَهَذَا المُقْتَرَحُ البَصَرِيُّ جُزْءٌ مِنْ مَشْرُوعٍ قَدِيـمٍ تَكَوَّنَتْ مَلاَمِحُهُ مِنَ العَبَثِ عَلَى وُرَيْقَاتٍ مُهْمَلَةٍ. هُوَّ سُلُوكٌ مُزْمِنٌ، جَامِحٌ،  رَوَّضَهُ حَبْرُ الأَرْخَبِيلِ عَلَى أَرْضِ الخَرْبَشَاتِ الهَامِشِيَّةِ. نَسْلٌ مِنَ المُنَمْنَمَاتِ تَتَكَاثَرُ بِتَلاَقُحِ الخُطُوطِ وَمُعَاشَرَةِ الأَشْكَالِ وَجِمَاعِ الصَّبْغِيَّاتِ. فُسَيْفُسَاءٌ مَرْكُونَةٌ تَتَوَالَدُ جُزْئِيَّاتُهَا مُنْذُ زَمِنٍ بَعِيدٍ عَلَى الرُّفُوفِ المَهْجُورَةِ، بَيْنَ الصَّفَحَاتِ المَنْسِيَّةِ وَفِي الجُيُوبِ القَدِيمَةِ. اسْتَفَاقَ السُّويسِي يَوْمًا عَلَى قَرَارِ تَكْرِيـمِـهَا بِعَقْدِ قِرَانِهَا عَلَى مَشْرُوعِهِ الفَنيِّ المُحْدَثِ. وَهُنَا يَنْتَفِضُ الوَعْيُ وَتَتَشَكَّلُ التَّجْرِبَةُ بِالتَّدَرُّجِ مِنْ الجُزْئِيِّ إِلَى الكُلِّي : فَمُنَمْنَمَاتُ الحِبْرِ هَذِهِ (بِمَا تَحْمِلُهُ مِنْ تَشْفِيرٍ) لاَ تُفْهَمُ وَلاَ تُتَاحُ قِرَاءَتُهَا بِالتَّفْصِيلِ لأَنَّهَا وَحَدَاتٌ لاَ تَتَجَزَّأُ مِنْ فُسَيْفُسَاءٍ مُتَحَرِّكَةٍ بَيْنَ أَزْمِنَةٍ وَأَمَاكِنَ حَمِيمَةٍ يَحْفَظُ السُّويسِي أَسْرَارَهَا وَثَنَايَاهَا وَيَحْرُسُهَا بِكُلِّ أُمُومَةٍ مِنَ أَعْـيُنِ المُخْتَلِسِينَ وَالمُتَطَفِّلِينَ.
 
سَاقَتْنِي غُيُومُ الفُسْفُسِ هَذِهِ إِلَى أَحْشَاءِ المَعَاجِمِ وَالقَوَامِيسِ بَحْثًا عَنْ عُرْفِ الرُّمُوزِ وَمَعَانِيهَا فَحَمَلْتُ مِنْهَا مَا خَطَفَ عَيْنِي وَشَدَّ انْتِبَاهِي. تِلْكَ :
- الصَّدَفَةُ المُعَلَّقَةُ : رَحِمٌ خِصْبٌ يُمَجِّدُ الجِنْسَ الأُنْثَوِيَّ وَيَرْفَعُهُ مِنْ أَرْضِ الذُّكُورَةِ المُتَكَلِّسَةِ المُتَصَدِّعَةِ إِلَى الطَّابِقِ الثَّانِي مِنْ عَالَمِ المُثُلِ.
- الجُزُرُ المُعَلَّقَةُ : أَعْشَاشٌ وَأَطْبَاقٌ حَجَرِيَّةٌ تَتَغَـنَّى بِمَسْقَطِ الرَّأْسِ وَبِالرَّحِمِ الأَوَّليِّ، تُنْشِدُ وَتَنْشُدُ الرَّغْبَةَ فِي البِنَاءِ وَالتَّزَاوُجِ. هِيَّ أَعْشَاشُ قَرْقْنَة المُعَلَّقَةُ، هِيَّ سَرَابٌ بَابِلِيٌّ مُجَرَّدٌ مِنَ الزَّمَنِ مُرْتَفِعٌ عَلَى الصَّحَارِي القَاحِلَةِ. صُحوُنُهُ المُعَلَّقَةُ هِيَّ أَيْضًا أَطْبَاقٌ لِمِيزَانٍ مِثَالِيٍّ عَادِلٍ، يَعْتَرِفُ بِحِكْمَةِ الطَّبِيعَةِ وَبِالحِكْمَةِ الخَارِقَةِ لِلْمَنْطِقِ وَالفَهْمِ الإِنْسَانِي.
أَرْخَبِيلُ السُّوِيسِي : جُزُرٌ، صُحُونٌ وَمُسَطَّحَاتٌ عَائِمَةٌ تَسْبَحُ فِي بَيَاضِ المَحْمَلِ الوَرَقِيِّ، تَسْكُنُهَا الكَائِنَاتُ الحِبْرِيَّةُ، تَحْيَى وَتَتَوَالَدُ فِي فَضَاءَاتِهَا ؛ جَزِيرَتُهُ امْرَأَةٌ تُوَشْوِشُ تَرَانِيمَ لَحْنِهَا الدَّاعِي لِلْمُلاَحَقَةِ وَالإِبْحَارِ وَمُغَازَلَةِ الخُلُودِ ؛ جَزِيرَتُهُ حُبٌّ أَفْلاَطُونِيٌّ يُزَاوِجُ الذَّاتِيَّةَ بِالوَعْيِ.
- السَّمَكَةُ "الزَّاهِيَّةُ" : كَائِنٌ مِنْ كَائِنَاتِهِ السَّاحِلِيَّةِ، مَخْلُوقُ البَدْءِ بِعَيْنِ دَارْوِينْ، يَرْسُمُهُ حَبْرُ الأَرْخَبِيلِ وَيُحَمِّلُهُ انْطِبَاعَ الفَرَحِ وَالتَّفَاخُرِ بِالحُرِيَّةِ وَالاسْتِقْلاَلِيَّةِ. يُحَمِّلُهُ عِبْءَ السِّبَاحَةِ بِاللاَّوَعْيِ مِنْ ظُلُمَاتِ اللاَّفَهْمِ إِلَى نُورِ الوَعْيِ بِفَرَادَةِ الذَّاتِ وَتَمَيُّزِهُا.
- فِي المُقَابِلِ يَرْمِي ذَلِكَ الأُخْطُبُوطُ المُحَـبَّرُ أَصَابِعَهُ عَلَى مَعَانِي الحُبُورِ وَالحَيَاةِ المُشْرِقَةِ وَيُلْقِي بِنَا فِي رَمْزِيَّةٍ عَنْكَبُوتِيَّةٍ مُتَشَابِكَةٍ إِلَى حَدِّ السَّوَادِ. أَصَابِعُ تَمْتَصُّ كُلَّ المَعَانِي الإِيـجَـابِيَّةِ وَتَنْـثُرُ رَمَادَ اللاَّوَعْي عَلَى الأُمُومَةِ الحَاضِنَـةِ وَالمُتَمَلِّكَةِ بِالفِطْرَةِ.
- مِنْ أَرْكِيُولُوجِيَا الأُمُومَةِ الـمُـتَسَلِّطَةِ تَنْتَصِبُ نَخْلَتُهُ شَامِخَةً مُلَوِّحَةً بِجَرِيدِ القُوَّةِ وَالمُقَاوَمَةِ وَالتَّوَازُنِ. هِيَّ الظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ مُجْتَمِعَانِ ؛ فَالظَّاهِرُ مِنْهَا وِحْدَةٌ تَرْفَعُ الذَّاتَ مِنَ الأَرْضِ إِلَى سَمَاوَاتِ النَّرْجَسِيَّةِ، وَالبَاطِنُ الخَفِيُّ مِنْهَا : جُذُورٌ، عُرُوقٌ وَأَغْصَانٌ مَقْلُوبَةٌ تَمْتَدُّ مِنَ السَّطْحِ نَحْوَ المَنْبَتِ (بِمَا هُوَّ انْتِمَاءٌ وَوِرَاثَةٌ) وَنَحْوَ سُرَّةِ الأَرْضِ (بِمَعْنَى التَّفَرُّدِ بِالذَّاتِ وَ"الأَنَانِـيَّةِ").
- الكَائِنَاتُ الصَّخْرِيَّةُ : مِثْلُهَا مِثْلُ النَّخْلَةِ وَالأَغْصَانِ، رُمُوزٌ "دَعَوِيَّةٌ" تُأَلِّهُ الطَّاقَةَ الكَوْنِـيَّةَ وَتَخْتَزِلُ القَدَاسَةَ فِي عَلاَقَةٍ عَمُودِيَّةٍ بَيْنَ الفِطْرَةِ وَالوَعْيِ. الكَائِنَاتُ الصَّخْرِيَّةُ أَيْضًا هِيَّ صُوَّرٌ لِلذُّكُورِيَّةِ المُتَحَجِّرَةِ يُصَعِّدُهَا الرَّسَامُ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ مَعَانِيهَا المُرَادِفَةِ لِلْخِصْيِ.
- المَنْحُوتَاتُ الصَّامِتَةُ، الأَبْرَاجُ المُهَدَّمَةُ، الخَرَابُ وَبَقَايَا المُدُنِ : كُلُّهَا تُحِيلُ إِلَى نَفْسِ الحَقْلِ السِّيمِيائِيِّ بِطَرْدِ المَعَانِي السَّلْبِيَّةِ عَنِ الذَّاتِ المُبْدِعَةِ. فَالمَنْحُوتَاتُ إِحَالَةٌ وَاضِحَةٌ إِلَى هَوَاجِسِ العُقْمِ وَالجَمَالِ البَارِدِ، وَتَوَجُّسٌ مِنَ الأَجْسَـادِ الجَامِدَةِ ؛ كَذَلِكَ فِي الخَرَابِ وَبَقَايَا المُدُنِ طَرْدٌ لِمَعَانِي الاهْتِرَاءِ المَادِيِّ وَالمَعْنَوِيِّ.    
- الأَعْيُنُ وَالزُّجَاجَاتُ وَالكُؤُوسُ : صُوَّرُ الهَشَاشَةِ وَالشَّفَافِـيَّةِ، صُوَّرٌ تَمْتَلِئُ أُنُوثَةً وَتَفِيضُ مِنْهَا الرَّغْبَةُ فِي احْتِوَاءِ اللاَّشَكْلِ وَهْيَ صُوَّرٌ تَتَمَاهَى رَمْزِيًّا مَعَ تِلْكَ الأَعْيُنِ التِي يُلْقِي بِها السُّوِيسِي فِي رَحِمِ الرُّسَيْمِ تَنْدِيدًا بِإِحْرَاجَاتِ الجَسَدِ وَذُنُوبِ العَرَاءِ، وَرَفْضًا لِوَضْعِيَّةِ "المَحْكُومِ عَلَيْهِ"، هِيَّ أَيْضًا تَثْمِينٌ لِلْعَلاَقَةِ التَّفَاعُلِيَّةِ وَالشَّرَاكَةِ الفِعْلِيَّةِ مَعَ المُشَاهِدِ : فَالأَعْيُنُ بِهَذَا المَعْنَى خَتْمٌ عَلَى التَّعَاقُدِ مَعَ "الآخَرِ" وَتَحَالُفٌ مَعَهُ عَلَى مَبْدَإِ تَدْرِيعِ السِرِّ الإِبْدَاعِيِّ بِحِمَايَتِهِ مِنَ التَأْويلِ.
- الكُتُبُ : كُتُبٌ مُغْلَقَةٌ بِأَقْفَالٍ حَدِيدِيَّةٍ، وَأُخْرَى مَفْتُوحَةٌ فِي المُنْتَصَفِ اقْتَطَعَ مِنْ بَعْضِ صَفَحَاتِهَا نَوَافِذ تُطِلُّ عَلَى وَرَقَاتٍ مَكْتُوبَةٍ. هِيَّ أَعْيُنٌ مَقْلُوبَةٌ إِلَى الدَّاخِلِ، شَاهِدَةٌ عَلَى حِيَاكَةِ الحَيَاةِ وَتَفْصِيلِ حِكَايَاتِهَا وَأَحْدَاثِهَا. أَعْيُنٌ تُحْيِي الذِّكْرَيَاتِ حِينًا، تَبْتُرُهَا وَتَقُصُّهَا أَحْيَانًا. هِيَّ لَحَظَاتُ تَأَمُّلٍ يَقِفُ فِيهَا الرَّسَامُ عَلَى أَطْلاَلِ الشَّهْوَةِ لِـيُطَـلِّسَ عَنْ فِطْرَتِهِ حَاجِيَّاتَهُ البِدَائِيَّةَ إِلَى النَّسْلِ وَالانْتِمَاءِ وَالسُّلْطَةِ، مُؤَكِّدًا بِذَلِكَ إِيـمَانَهُ بِسُلْطَانِ المَبَادِئِ الإِنْسَانِيَّةِ الأَسَاسِيَّةِ وَاعْتِقَادَهُ فِي نُبْلِ المُشْتَرَكِ الحَضَارِيِّ.
 
إِشَارَاتٌ وَأَنْسِجَةٌ تَرْتَكِزُ بِوُضُوحٍ عَلَى أَثَرِ البِيئَةِ فِي التَّعْبِيرِ الجَمَالِيِّ : جُزُرُ قَرْقْنَة الحَالِمَةُ، المُقَاوِمَةُ، حَاضِرَةٌ بِامْتِيَّازٍ فِي مَسَامِّ الخُطُوطِ وَالأَلْوَانِ. قَرْقْنَة : الأَرْضُ العَائِمَةُ وَالأُمُّ النَّائِمَةُ وَالشُّخُوصُ الهَائِمَةُ. قَرْقْنَة : المُسَطَّحَاتُ وَالصُّخُورُ، النَّخِيلُ وَالطُّيُورُ. قَرْقْنَة : مَحَاجِمُ الأُخْطُبُوط وَخُيُوطُ العَنْكَبُوت... هِيَّ مَرْجَعِيَّتُهُ الرَّمْزِيَّةُ وَانْطِبَاعُهُ المُتَجَدِّدُ بِعَفْوِيَّةٍ، مَسْقَطُ رَأْسِهِ وَأَرْضُهُ الأُمُّ، يَسْكُنُهَا وَتَسْكُنُ يَدَهُ اليُسْرَى، تَرْقُدُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَتَحْتَضِنُ أَحْلاَمَهُ البَرْمَائِيَّةَ.  
 
مُنَمْنَمَاتٌ مُشَفَّرَةٌ تُومِئُ إِلَى انْفِعَالاَتِ الآثَارِ الخَطِيِّةِ مَعَ الهَوَاجِسِ النَّحْتِيَّةِ : البُعْدُ الثَّالِثُ حَاضِرٌ بِالغِيَّابِ، هُوَّ البُعْدُ المَفْقُودُ وَالإِيـحَـاءُ المَنْشُودُ، فَاخْتِزَالُ المَنْظُورِ فِي البَيَاضِ الوَرَقِيِّ مُرَادِفٌ لِلْفِعْلِ النَّحْتِيِّ، تَتَحَوَّلُ بِهِ القِشْرَةُ الوَرَقِيَّةُ مِنْ غِشَاءٍ مُنْبَسِطٍ، رَقِيقٍ، إِلَى أَدِيـمٍ طَيِّعٍ، سَمِيكٍ، قَابِلٍ لِرَسْمِ وَتَشْكِيلِ الانْطِبَاعَاتِ. عَلَى هَذِهِ اليَرَقَاتِ اليَتِيمَةِ يَكْتُبُ حَبْرُ الأَرْخَبِيلِ دُسْتُورَهُ، دُسْتُورَ جُمْهُورِيَّةِ النَّحَّاتِ ؛ وَيَنْقُشُ قِيَّمَهُ المُسْتَلْهَمَةَ مِنْ اسْتِيطِيقَا النَّحْتِ : المِلْءُ وَالفَرَاغُ، الجَاذِبِيَّةُ وَالتَّوَازُنُ الفِيزِيَّائِيُّ، التَّرْكِيبَةُ وَالحَجْمُ وَالدَّوَرَانُ... ثُمَّ يَسْتَلِفُ أَغْصَانَ وَأَطْرَافَ سَالْفَادُورْ دَالِي الدَّاعِمَةِ لأَشْكَالِهِ الرَّخْوَةِ لِيَزْرَعَهَا تَحْتَ مَنْحُوتَاتِهِ الصّخْرِيَّةِ اليَابِسَةِ.
 
مِنْ أَثَرِ المَنْشَأِ وَالبِيئَةِ (جُزُرُ قَرْقْنَة)، أَثَرُ التَّكْوِينِ الأَكَادِيـمِيِّ الأَصْلِــيِّ (فَنُّ النَّحْتِ)، يَبْنِي طَارِق السُّوِيسِي مَنَارَتَهُ الجَمَالِيَّةَ بِتَعْبِيرِيَّةٍ غَائِرَةٍ فِي الطُّوبَاوِيَّةِ، مَنَارَةً شَيَّدَهَا لِتُشْرِفَ عَلَى سَوَاحِلِ اليُوطُوبِيَا الإِغْرِيقِيَّةِ وَتَرْتَفِعَ عَلَى يُوطُوبِيَا تُومَاسْ مُورْ. تِلْكَ المَنَارَةُ هِيَّ المَسْكَنُ وَالمَرْصَدُ، وَهْيَ البَصَرُ المُرَاقِبُ لِمُذَنَّبَاتِ الفَنْطاَزْيَا وَمَجَرَّاتِ العَجَائِبِيَّةِ - السِّحْرِيَّةِ.
فِي مُنَمْنَمَاتِ الحِبْرِ هَذِهِ مَشْهَدَةٌ لِلرُؤَى، يُمَسْرِحُ السُّوِيسِي طُقُوسَهَا مِنْ أَدَبِ الرِّحْلَةِ فَيَزُجُّ بِالأَشْيَاءِ وَالشُّخُوصِ وَالأَحْدَاثِ فِي فَضَاءَاتِ الأَتْلَنْتِيدْ وَفَوْقَ المَدِينَةِ الشَّمْسِ ثُمُّ يَسْبَحُ بِالأَعْيُنِ فِي عَوَالِمِ السِّنْدِبَادِ وَفَوْقَ مَدَائِنِ جَالِيفِرْ الغَرِيبَةِ.
 
لِهَذِهِ التَّجْرِبَةِ ثَلاَثَةُ وَاجِهَاتٍ : التَّقْلِيدُ وَالتَّجْدِيدُ وَالتَّأْلِيفُ. عَلَى الوَاجِهَةِ الأُولَى يَتَمَسَّكُ السُّوِيسِي بِالرَّسْمِ التَّحْلِيلِي وَيَلْتَزِمُ بِالنَّفَسِ الكْلاَسِيكِي شَكْلاً وَمَضْمُونًا وَمَرْجَعِيَّةً، وَلَعَلَّ فِي اخْتِيَارِهِ لِلْحِبْرِ وَالأَقْلاَمِ الوَبَرِيَّةِ وَالجَافَّةِ - (وَسَائِلُ وَوَسَائِطُ "مُتَاحَةٌ لِلجَمِيعِ"، سَهْلَةُ الحَمْلِ، سَرِيعَةُ التَّجْفِيفِ...) - تَأْكِيدٌ عَلَى تَمَسُّكِهِ وَوُثُوقِهِ فِي عَلاَقَةِ الرَّسْمِ بِالاحْتِرَافِ.
فِي المَرَاحِلِ الأُولَى مِنْ هَذِهِ التَّجْرِبَةِ لَمْ تَكُنْ الرُّسَيْمَاتُ مُقْتَصِرَةً عَلَى جَمَالِيَّتِهَا، بَلْ كَانَتْ بِمَثَابَةِ تِعِلَّةٍ لِلتَّمَرُّنِ وَتَحْسِينِ المَهَارَاتِ وَالقُدُرَاتِ، ثُمَّ تَحَوَّلَتْ إِلَى هَنْدَسَاتٍ وَتَصْمِيمَاتٍ مُصَغَّرَةٍ لِلَوْحَاتٍ ضَخْمَةٍ حَقَّقَ بَعْضًا مِنْهَا بِالفِعْلِ.
تَجْرِبَةُ الحُرُوفِيَّةِ (فِي نُسْخَتِهَا البِدَائِيَّةِ)، بَقِيَّتْ (إِلَى حَدٍّ مَا) مُرَادِفَةً لِلزَّخْرَفَةِ وَذَلِكَ أَيْضًا مِنْ بَابِ التَّقْلِيدِ.
عَلَى الوَاجِهَةِ الثَّانِيَّةِ مِنَ المَشْرُوعِ، يَظْهَرُ التَّجْدِيدُ فِي : اخْتِيَّارِهِ لِلْمَحَامِلِ الوَرَقِيَّةِ الهَامِشِيَّةِ ؛ سَعْيِهِ وَرَاءَ إِنْشَاءِ مُدَوَّنَةٍ تَشْكِيلِيَّةٍ خَاصَّةٍ ؛ بَحْثِهِ الدَّؤُوب عَلَى مَجَالاَتٍ سِيمِيَّائِيَّةٍ تَقُومُ عَلَى سُهُولَةِ القِرَاءَةِ وَامْتِنَاعِ المَعْنَى ؛ تَحْوِيلِ التَّمَشِّي الأَوَّلِيِّ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخَطِّ العَرَبِيِّ مِنَ التَّزْوِيقِ إِلَى "الغَاشْتَالْتِيَّةِ" وَالانْتِهَاءُ إِلَى تَعْبِيرِيَّةٍ أَكْثَرَ عَفْوِيَّةٍ : تُسَائِلُ المَلْمَسَ وَاللَّطْخَةَ وَاللاَّشَكْلَ ؛ مُحَاوَلاَتِ الاسْتِثْمَارِ فِي فَضَاءَاتِ التَّوَاصُلِ وَالنَّقْدِ مِنْ خِلاَلِ مَوَاقِعِهِ الافْتِرَاضِيَّةِ عَلَى شَبَكَاتِ التَّوَاصُلِ الاجْتَمَاعِيِّ وَمِنْ خِلاَلِ الطِّبَاعَةِ وَالنَّشْرِ. كُلُّ هَذِهِ المَفَاصِلِ تُؤَكِّدُ عَلَى نُضْجِ مَشْرُوعِهِ وَتَكْشِفُ إِيـمَانَهُ بِإِبْدَاعٍ تَفَاعُلِيٍّ يُوَحِّدُ عَوَالِمَهُ.
أَمَّا الوَاجِهَةُ الثَّالِثَةُ مِنَ المَشْرُوعِ فَهْيَ ثَقَافِيَّةٌ بِالأَسَاسِ، يَحْتَفِي فِيهَا طَارِقْ السُّوِيسِي (الإِنْسَان) بِالذَّكَاءِ الجَمْعِيِّ وَيَدْعُو مِنْ خِلاَلِهَا إِلَى الثَّوْرَةِ وَالقِيَّامِ عَلَى صَالُونَاتِ العَرْضِ لِتَجْدِيدِ عَلاَقَتِهَا بِالمُجْتَمَعِ وَتَحْيِينِ دَوْرِهَا فِيهِ. بِهَذَا المَعْنىَ وَبِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ، يَكُونُ السُّويسِي مُثَقَّفًا عُضْوِيًّا، يَتَطَابَقُ سُلُوكِيًّا مَعَ تَعْرِيفِ أَنْطُونْيُو غْرَامْشِي : "هُوَّ المُفَكِّرُ وَالعُنْصُرُ المُنَظِّمُ فِي طَبَقَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ"، فَالوَعْيُ الاجْتِمَاعِيُّ، وَالشَّجَاعَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ الاخْتِلاَفِ وَالرَّأْيِ، وَالرَّغْبَةُ فِي تَعْرِيَّةِ الحَقَائِقِ... كُلُّهَا سِمَاتٌ مُمَيَّزَةٌ لِلْمُبْدِعِ كَمُثَقَّفٍ عُضْوِيٍّ، تَجْعَلُ مِنْهُ مُوَّجِهًا لأَفْكَارِ وَتَطَلُّعَاتِ الطَّبَقَةِ التِي يَنْتَمِي إِلَيْهَا. دَوْرُهُ فِي المُجْتَمَعِ شَرَاكَةٌ وَنِضَالٌ نَشِيطٌ لِتَغْيِيرِ الآرَاءِ "البَالِيَّةِ" وَنَسْفِ النُّظُمِ النَّمَطِيَّةِ. سِلاَحُهُ فِي مُوَاجَهَةِ سُلْطَةِ القُوَّةِ وَالمَالِ وَالمُعْتَقَدِ هُوَّ الرَّمْزُ المُخَاطِبُ لِلنُّفُوسِ وَالعُقُولِ.
 

حَبْرُ الأَرْخَبِيلِ (طَارِقْ السُّوِيسِي)، رَسَّامٌ مُنْحَازٌ إِلَى ضَمِيرِ الجَمَاعَةِ، رَافِضٌ لِلْقَهْرِ الإِدْيُولُوجِيِّ بِشَتَّى أَشْكَالِهِ، حَالِمٌ وَحَامِلٌ لأَفْكَارٍ وَاضِحَةٍ حَوْلَ الإِنْسَانِ وَالثَّقَافَةِ وَالمُجْتَمَعِ. خِطَابُهُ المَرْئِيُّ حَثٌّ مُتَوَاصِلٌ لِلْقَاعِ عَلَى المُقَاوَمَةِ بِالعَمَلِ الفِكْرِيِّ وَاليَدَوِيِّ. هُوَّ مُخَطِّطٌ وَمُحَرِّضٌ بِامْتِيَازٍ، يَسْتَمِيتُ بِاسْتِمْرَارٍ فِي نَشْرِ دَعَوَاتِ الحَيَاةِ وَالحُبِّ والتَّأَمُّلِ مِنْ خِلاَلِ الفِكْرِ وَالإِبْدَاعِ.  
 

 

Walid Ardhawi - Tunisian Artist -

 

 
 

هوامش من معرض وليد العرضاوي : "عرس الذيب"
السبت 2019/04/27 العاشرة صباحا
 
لم أتردّد كثيرا قبل أن اتَّخِذَ قرار الزيارة والتحرّك نحو الضاحية الشمالية لتونس العاصمة. دَفَعَتْنِي تلك الرؤيا الليليّة الخاطفة فاسْتَفَقْتُ على رغبةِ الزيارة، زيارة المقام العالي لسيدي أبو سعيد التميمي الباجي، رأيتُه واقفا ببرنسه الأخضر واضعا يده اليمنى على كتف ذلك الشخص الضحوك، اللطيف، الخجول صديقنا وليد العرضاوي، واليسرى على ظهر حمار بني ذهبي... احتشد المريدون وتكاتفوا وقوفا أمام المشهد وقبل أن يُطلق شيخ الطريقة أولى كلماتِ الدرس كنتُ قد صحوتُ من غَفْوَتِي تلك بذلك القرار الحاسم، قرار الزيارة.
سبت مشمس ربيعي واكتظاظ سياحي اعتيادي، لا سبيل للوصول إلى فضاء العرض العرضاوي إلا بالتَّرَجُّلِ، بلْ بالتسلّق. استوقَفَني تعبُ الصعود مرّة وعرق الإنْهَاك مرّات حتى انتهى مساري بِلهَاثٍ أخرس. المهمّ، أمام دار العرس، "عرس الذيب" كما أراد وليد لمعرضه اسما، كانت "الزُّمرة" الوفيّة قد بدأت مراسم الاحتفاء والاحتفال بافتتاح عرض شخصي لشَخْصِيَّةٍ أَرَاهَا تَسْتَحِقُّ عناء التحرّك والصعود.
في الحقيقة كانت الروح السائدة بين الناس والمكان، روح محبّة ولطف، روح الخفّة والتودّد والصدق، روح الدعابة والتندّر، روحٌ افتقدتُها منذ زمن، وكم كنت محتاجا...
 
عالم وليد العرضاوي
منذ الوهلة الأولى لدخول فضاء العرض تتلاعبُ من حولك صورُ الطرافة والهزل الذكي وتدفعك إلى أقاصي الوضعيات الخياليّة: عَقْدُ قِرَانٍ حَنَفِيٍّ كان فيه وليد العرضاوي مأذونا على الزِّيجَةِ. يتصافحُ تحت منديله الورقيّ كلّ من حاتم المكي وجون ميشيل باسكيا. يُرفع المنديل فيسقطُ من تحته طفل قزم، يقف، يُعدِّل حزامه ويرفعه فوق كرشه الكبيرة، يهرول، يجري، يسارع نحو مدرسة ما في مكان ما، يدخل القسم، يجلس، يفتح الكرّاس، يكتب تاريخ اليوم في أعالي الصفحات، ينتظر المعرفة، يترقّب العبقريّة، يتأمّل العِلْمَ، ينتظر أكثر فأكثر، ثمّ ينتظر وينتظر حتى يملّ الانتظار... تُداعبه الخطوط والهوامش والسطور الملوّنة، فيُداعبها بقلمه حتى يكبر الأثر ويتجسّد ؛ يرحل الطفل وحيدا إلى عالمه الجديد، يحلم زمنه المنفرد، زمنٌ مُوَاز للزمن المستطيل (زمن القسم)... يصرخُ المعلّم في الطفل فيَسْتَلُّهُ من هُيامِه اللذيذ : "يا بـهـيم". عاودتني ذاكرةُ المدرسة والمُدَرِّسِ حتى كادت تخنقني، ذلك الحارس الأعمى لِزَمَنِ البرامج التعليميّة المغلقة، ذلك السجّان الغيور على وقت المؤسّسات وأَعْرَافِها، تلك الصرخة لا زالت تَتَردّدُ في أركان المدارس ولا يخفت صداها في مقابر وَأْدِ الإبداع، مدافن الطاقات المختلفة، سجون الطفولة الحالمة، معتقلات التأهيل والتدجين...
أغلقتُ قوس الطفولة والحرمان ورجعتُ إلى قُزْحَةِ العرضاوي؛ اتبعتُ حماره الصبور علّه يُخرجني من عوالم فنّ الحمير إلى حيوات حمير الفن، وكم هم كثر...
استحضرتُ حمير الرسم، حمير فرانشيسكو غويا والحمار الرسّام لرافييل برونالي... وحمير الأدب، أوّل قصص العالم وأوّل رواية تصل كاملة في تاريخ الإنسانيّة، رواية الحمار الذهبي أو تحولات الجحش الذهبي للوكيوس أبوليوس ؛ لوكيوس ذلك الأمازيغي الذي أنشأ حكايته على مبدأ التحوّل السحري، بطلُهُ الساحر المبتدئ يُحاول تقليد المشعوذة بامفيلا في تحوّلها إلى طائر فيتحوّل بدوره إلى حمار ولا يُفكّ سحره إلاّ بعد استجابة إيزيس لدعواته... ثمّ قصّة الحمار والجرو للافونتين، حمار فيكتور هيغو، حمار الحكيم، حمير أحمد مطر والحمار الميت للتركي عزيز نيسين ؛ ومن حمير السينما تذكرتُ الجحش بيم لألبير لاموريس وبالتازار لروبير بريسون... أما حمار العرضاوي فهو وليدٌ للدهشة وحمّالٌ لها، بردعته لحظة مُبْدَعَةٌ متفرّدة، صوره تستوقفك فَتَضَعُ التأويل أمام استفهاماتٍ مفتوحة إلى حدّ إنْهاكِ المخيال، ثمّ تقف على عتباتِ شعورٍ يَزْدَادُ ترسُّخًا كلّما أمعنتَ النظر والتأمّل، شعورٌ بأنّك أمام ذهنية مُطْلِقَة لقُدرتِها على التأليف بين الرموز والمرجعيات. تَتَحرَّكُ مخلوقات العرضاوي الوَبَرِيَّةُ وتتحوّل بين الخطوط والحروف واللَّمسات والخربشات؛ كائناتٌ عجائبيةٌ، قزمة، خجولة، تترقّب، تُرَاقِبُ وتُحاور أَوْبَارَ الحمير المُقَيَّدَةِ رَسْمًا وَرَمْزًا. أمام الأَعْيُنِ المُنْطَفِئَةِ للحمير المربوطة تتحرك الألوان المُشِعَّةُ وتُدَغدغُ مَغَصَ الأحْبَارِ المَلْفُوظَةِ من أَلْسُن الأقلام الجافة. ألوانُ الحبر "التجاري" الزيتي الملَوَّنِ يُحَوِّلُها صديقنا المبدع إلى فسفور وهَّاجٍ يُشعل الخَدَرَ وَيُوقِدُ الذاكرة والوَجْدَ.
فخُّ الحمار : إضْحَاكُ التراجيديا
تَفْرِضُ ثِيمَةُ الحمير والذئاب على الألْسُنِ تَوَجُّسًا وتَضَعُكَ موضع الحَذَرِ والتَّرَدُّدِ، بلْ التفكير قبل المغامرة بالتعبير، فَمُجَرَّدُ الحديث عن الحمير مع "الزمرة الساخرة" (ضيوف المعرض) يَجْعَلُ من الكلمات مصيدةً لصُوَرِ الهزل وفخّا للطرافة والضحك، وَفِعْلاً كانت محاورات الزائرين والأصدقاء في ساعات الافتتاح الأولى كلّها اختلاف مَرِحٌ وخروج عن المألوف، فكان الطقس كوميديا شفّافًا، لا هو أبيض ولا أسود، "تُسْتَحْمَرُ" فيه الأَعْيُنُ التافهة والمخيّلات المسطَّحَةُ. الثيمَةُ هنا مجرَّدةٌ رغم تصويرها المباشر. هي إطار تعبيريٌّ خالص ومُتَبَرِّئٌ من تأويلات الآخر، بريئةٌ إلى حدّ الطُّهْرِ والسُمُوِّ.
وليدُ العرضاوي، حِمَارُهُ، يرفس التراجيديا ويصكّ الباب على الإرث الإغريقي المُهَيْمِنِ على الوجدان الجمعي للتشكيليين التونسيين ويفكّ رباطه من طقوسهم المأساوية القديمة. الشاعريّة هنا شعور عام ومكان مفتوح على الغرابة يُسَاءَلُ من خلاله الإرثُ والمُسَلَّمَاتُ الجمالية... وفي لحظة المُعَايَنَةِ تقع العين في شباك الكراسات والصفحات، فَيَتَشَابَكُ الحميمي الدقيق، الذاتي، الخاص مع المشترك المُتَذَكَّرِ وتتحول جُزئياتهُ الصغيرة إلى وحداتٍ بصرية عملاقة. هكذا صنع العرضاوي فِخَاخَهُ السحريّة وهكذا أسَرَتْنَا أعينُ شبكاته المتسعة وعُقَدها الرقيقة.
قدرته على محاكاة العالم بالتصوير أمرٌ هَيِّنٌ بالنظر إلى مهاراته لكنّ استعراضه الحقيقي والمثير يظهر في الجزء العلوي من أغلب اللوحات حين يحكي ويحيك ارتعاشة الطفل المُتَعَلِّمِ للكتابة والخطّ والتلوين والخربشة.. مكاشفةٌ ذكيّة تصوّر إحساسه المرهف بالمحيط المعاش والمُتَذَكَّرِ.
ذاتِيًّا ومن زاوية نَظَرِي كُنْتُ وَلا زلتُ رَافضًا بلْ حذِرًا من نافذة الطفل واللّهْوِ كَمَنْطقٍ إِنشائيٍّ لأعمال العرضاوي، فبالرغم من زخم وغزارة الرموز المُحِيلَةِ إلى ذلك إلاّ أنّ مَعْرِفَتِي بِثَرَاءِ تجربته الإنسانيّة والاجتماعيّة والفنيّة تَحُولُ دوني والنظر لأعماله من ذلك المنطلَقِ ؛ والقصد من ذلك لم يكن أبدا استنقاصا ولا استصغارا لمنطلق الطفل اللاَّهي كَمَبْدَأ إنشائيٍّ بلْ اعتقادا خاصا في استحالة أنْ يكون وليد المبدع بتلك المُبَاشَرَتِيَّةِ... مَنْ يدري لَعلّه فخّ من فخاخ الذئاب لا الحمير.
الهزل في مقترحاتهِ بَرْغْسُونِيٌّ محض، يتطابق كُلِّيًا مع أطروحة هنري برغسون وتفسيره لميكانيزمات الضحك. ذلك التَّباينُ الجسدي الحركي بين ما هو مُتَخَشِّبٌ، صلب واللُّيُونَةِ العفويّة الأصليّة في الأجساد الحيّة. كان قنّاصًا لِلَحظات المُرُونَةِ الهاربة عن وضعيات الثبات والتَكَلُّسِ الحركي، تلك الزيجة اللاّطبيعيّة واللاّمعتادة سِرٌّ من أسرار الشحن الايجابي للمشاهد. وللأمانة أَرَاهُ واحدًا من أهمّ الناشطين والمُقَاومين للنَّسق السائِد والداعِمِين لتيار الحداثة في الفنّ التشكيلي التونسي مِثْلُهُ مِثْل عايشة الفيلالي، عماد الجميل، حليم قرابيبان، محمد بن سلامة، نضال الشامخ ومهدي بوعناني.
 
الزمن الميثي في تعبيرة وليد العرضاوي التشكيليّة
"جوهر الميث في الحكاية التي يَحْكِيها" كلود ليفي ستراوس في الانثروبولوجيا البنيوية (ص232)
كَلَّفَتْنِي زيارة العالم العرضاوي مَشَقَّةَ التسلّق للزيارة وكانت المكافأة إشباعا بصريا تامّا وشُحنة دافئة دَفعتني للقراءة والتفكير. كتابٌ راجعتُه بالمناسبة، بساطٌ طائرٌ يَحْمِلُكَ إلى مجازاتٍ نائية منسية : كوكرا في الميثولوجيا الأمازيغية للمغربي محمد أوسوس، صادر في 2008 عن منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغيّة، مركز الدراسات الأنثروبولوجيّة والسوسيولوجيّة ؛ استعمل فيه مصطلح الميث عوضا عن كلمة أسطورة استئناسا بِنُصوص محمد أركون. أَطْرَفُ مَا يَتَعلَّقُ بالموضوع في الكتاب هو أنّ للحمير رُتَبًا ميثولوجيّة في المخيال الأمازيغي، فالرتبةُ الأولى قائمة على ميث الجنّة إذ يروي أمازيغ المغرب والجزائر وليبيا أنّ "الملائكة كلّمت خالق الكون ليجعل للحمار مكانا في الجنّة التي يستَحِقُّها كَمِثَالٍ للصبر والتحمّل... وعند مدخل الجنّة كان الحمار حذرا، فلمّا أطلّ بِمخْطَمِهِ (مقدّمة الأنف والفم) على الفردوس رأى جمعا من الأطفال يمرحون فتجمّد وعجز عن مواصلة الخطو، وعبثا حاولت الملائكة سوقه بلطف أَوّلا ثمّ بِإِكْرَاهٍ ثانيّة، فَقَرَّرْن إرجاعه إلى عالمه الدنيوي، ولمّا كان قد أطلّ بمخطمه داخل الفردوس فقد غمره نوره، ومنذئذ صارت الحمير تولد بمخطم أبيض" (ص277) ؛ أما الرتبة الميثولوجية الثانية فتقوم على ميث قوس قزح، تُشبه ما يُشاع عنه في مجتمعنا التونسي، فهو في أسفل سلّم الفضاء الاجتماعي الحيواني، رمز للبلادة والجهل والسذاجة والخنوع والخضوع، طويل الذَّكَر والأذنين - وطول الأذنين معابة لدى شعوب الأمازيغ - وهو بتلك الأوصاف أقرب إلى الشرّ والخطيئة منه إلى الخير والفضيلة.
قوس قزح، "تسليت أونزار" أو عروس المطر: من باب التفسير الميثي للظواهر الجوية الخارقة أطلق أمازيغ مطماطة التونسية حكاية عرس الذئب كَمِيثٍ كُوسْمُوغُونِيٍّ يَرْوِي قصّة زيجةٍ غير متكافئة بين ابن آوى وجنيّة، وفي روايات أكثر تواترا بين ذئب وجنيّة تَجَسَّدَت في شكل أتان (أنثى الحمار)، غضبت الطبيعة فأمطرتْ السماءُ والشمس بازغةٌ وحين قَرَّرَت الحيوانات نَفْيَهُ إلى قِمَّةِ جبلٍ عَبَّرت الطبيعة عن رضاها بقوس قزح.
"تمغر أوشن" حرفيا "عرس الذيب" هو استنباط ميثي لعلاقات جديدة لاطبيعيّة يستحضرها وليد العرضاوي ويعيدها إلى "طُهْرِ اللَّهو الإبداعي". وجوهر الميث في أعماله هو بالفعل حبكة حكائية بنسق رمزي خاص. فالزمن هنا تجميع لطقوس الحكي الميثي بالخط والتلوين.
 
في النهاية
رَأَيْتُ في أعماله ما يُشبه التحوّل السحري فأقنعتُ موضوعيَّتِي بأَنَّ حِسَّهُ الخارق مَكَّنَهُ من الاتصال (لَعَلَّهُ اتصالٌ أَثِيريٌّ) بالشيفرة الميثولوجيّة الأمازيغية المُخَزَّنَةِ في برنامجه الخَلَوِيِّ الجيني. ثم رأيته يتماهى مع الأبطال الخارقين في الصوّر المتحرّكة القديمة، يقظان الفضاء مثلا، ذلك البطل الورقي الخارق ينْزل مُتزحلقا، متزلّجًا من على قوس قزح، يُحارب الغُزَاة والأشْرار بالأَلوان المُشِعَّةِ عَلَى نَغَمات موسيقى الديسكو. هو بِعَيْنِهِ وخِفَّتِه وليد العرضاوي، يَقْظَان الفضاء التشكيلي.
 

 

 

Minibluff the card game

Hotels